12- ولاية الفقيه
الكلام في ولاية الفقيه
لا إشكال في أنّ للفقيه الجامع للشرائط عدّة مناصب منها : منصب الافتاء في المسائل الفرعية والموضوعات المستنبطة وغيرهما ممّا يحتاج إليه العامي في عمله ولا إشكال في جواز الافتاء له في تلك الموارد . والمراد بالجواز هنا ليس هو الجواز التكليفي فحسب بل الجواز الوضعي والنفوذ على مقلّديه ومن يجب عليه الرجوع إلى العالم ، لوضوح أنّ الجواز التكليفي بمجرّده لا يشترط فيه العدالة وبقيّة الشرائط المعتبرة في الفقيه الجامع للشرائط .
ومنها : منصب القضاء والحكم بما يراه حقّاً في باب المرافعات وغيرها في الجملة ، وهذا أيضاً ثابت له بلا خلاف . والمراد بجواز القضاء عليه أيضاً هو الوضع والنفوذ كما لا يخفى .
ومنها : ولاية التصرف في الأنفس والأموال ، وهذا قد وقع فيه النزاع والخلاف ، وهو كما ذكره شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) يتصوّر على وجهين الأول : استقلال الولي بالتصرف سواء أكانت تصرّفات غيره منوطة باذنه أم لم تكن منوطة باذنه . الثاني : كون تصرفات الغير منوطة باذنه سواء كان هو مستقلا بالتصرف أم لم يكن كما في تصرّفات المالك فيما أخرجه من سهم الإمام (عليه السلام)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكاسب 3 : 546 .
ــ[157]ــ
فإنّ إذن الحاكم الشرعي شرط في صحته وإن كان الفقيه لا يتمكّن من التصرف في مال من وجب عليه الخمس باخراج سهم الإمام (عليه السلام) حيث إنّ تعيينه راجع إلى نفس المالك ، إلاّ أنّ تصرف المالك في سهمه (عليه السلام) موكول إلى نظر الفقيه وإلى إجازته .
وكيف كان ، فالكلام في المقام يقع في الولاية بكلا المعنيين ، وإن كانت النسبة بينهما عموماً من وجه ، وذلك لأنّ الولاية بالمعنى الأول عبارة عن كون الفقيه جائز التصرف من دون فرق بين أن يكون غيره أيضاً جائز التصرف فيه ومن دون حاجة إلى ذن الغير وعدمه ، والولاية بالمعنى الثاني عبارة عن كون الفقيه ممّن تعتبر إجازته في نفوذ تصرفات الغير ، كان الفقيه أيضاً جائز التصرف أم لم يكن .
وكيف كان ، فقد تكلّم شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) في المقام في ولاية النبي والأئمّة (عليهم السلام) ثمّ عقّبه بالتكلّم في ولاية الفقيه ، والكلام في ولاية النبي والأئمّة (عليهم السلام) يقع في موارد أربعة : أحدها في ثبوت الولاية التكوينية لهم وكون الخلق باختيارهم تكويناً . وثانيها : في ثبوت الولاية التشريعية في حقّهم . وثالثها : في الولاية بمعنى وجوب طاعتهم فيما يرجع إلى تبليغ أحكام الشريعة المقدّسة ورابعها : في ثبوت الولاية لهم في غير ما يرجع إلى الدين وأنّ إطاعتهم في مثل الأمر باتيان الماء ونحوه من الأوامر الشخصية واجبة أو لا .
أمّا الولاية التكوينية : فلا إشكال في ثبوتها وأنّ المخلوقات بأجمعها راجعة إليهم وإنّما خلقت لهم ، ولهم القدرة على التصرف فيها وهم وسائط التكوين ، ولعلّ ذلك بمكان من الوضوح ولا يحتاج إلى إطالة الكلام ، مضافاً إلى أنه خارج عمّا هو المهم في المقام .
وأمّا الولاية بالاضافة إلى أمر الدين وتبليغ أحكام الشريعة : فهي أيضاً لا إشكال في ثبوتها ، وهي ممّا لا يحتاج إلى إقامة البرهان ومن القضايا التي قياساتها
ــ[158]ــ
معها ، لأنّ وجوب الاطاعة لهم (عليهم السلام) فيما يرجع إلى أمر الدين من لوازم النبوّة والإمامة ، ولولاه لما كان معنى لنبوّة النبي أو إمامة الولي ، وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في ثبوت الولاية بالاضافة إلى أمر الدين .
وأمّا الولاية في غير ما يرجع إلى الدين كأوامرهم الشخصية فقد وقع الكلام في ثبوتها وعدمه ، والمتسالم عليه بينهم هو أن إطاعتهم لازمة في أوامرهم الشخصية ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ)(1) حيث إنه سبحانه عطف إطاعة الرسول على إطاعة نفسه وهو يعطي التغاير بينهما ، ومن الواضح أنّ إطاعة الرسول فيما يرجع إلى أمر الدين إطاعة لله تعالى وهو داخل تحت قوله (أَطِيعُوا اللهَ) فلا محالة يكون المراد في الأمر باطاعة الرسول إطاعته في أوامره الشخصية ، ويوضّح ذلك : أنّ الامتثال والاطاعة لله إنّما يكون باطاعة أمر الرسول ، إذ لا يأمر الله أحداً بلا واسطة ، فكأنه تعالى قال (أَطِيعُوا اللهَ) بامتثال أمر الرسول ثم عطف عليه الأمر باطاعة الرسول في أوامره الشخصية ، وقد فسّر اُولوا الأمر بالأولياء (عليهم السلام) وكذا قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ)(2) حيث إنّ أوامرهم الشخصية داخلة تحت قضائه ، وقد نهى الله تعالى عن الاختيار بعد أمرهما ، فكأنه مسلوب الاختيار بعد أمرهما .
وكيف كان ، فلا إشكال في ثبوت الولاية في أوامرهم الشخصية بالآيات والروايات .
وأمّا الاستدلال على ثبوتها بالدليل العقلي المستقل والدليل العقلي غير
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) النساء 4 : 59 .
(2) الأحزاب 33 : 36 .
ــ[159]ــ
المستقل كما عن شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) حيث استدلّ في المقام تارةً بوجوب شكر المنعم عقلا ، وهم (عليهم السلام) منعمون علينا فيجب شكرهم باطاعتهم في أوامرهم الشخصية ، واُخرى بالفحوى والأولوية حيث إنّ إطاعة الوالد واجبة فاطاعتهم تجب بطريق أولى .
فيدفعه : أنّ المسلّم من الدليل العقلي الاستقلالي هو حسن شكر المنعم ولا يترتّب على مخالفته العقاب الذي هو المقصود من الوجوب في المقام ، وإنّما يترتّب عليه الذمّ أو قطع الإحسان من المحسن وكلاهما أجنبيان عن العقاب ، ولذا ذكرنا أنّ وجوب شكر المنعم لا يثبت وجوب المعرفة أيضاً ولا يمكن أن يقال إنّ شكر المنعم واجب وهو لا يتم إلاّ بمعرفته حتّى يشكر ، وذلك لأنه لا يترتّب على ترك ذلك الحكم العقلي عقاب ، وغايته الذمّ وقطع الإحسان وهو لا يثبت استحقاق العقاب وإنّما استدللنا على وجوب المعرفة باحتمال العقاب وظنّ الضرر على تقدير تركها ودفع الضرر المحتمل بهذا المعنى لازم عقلا ويترتّب على مخالفته الضرر بمعنى العقاب ولا يجري ذلك في وجوب الطاعة لأنه مع الشكّ في وجوب الطاعة تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وهذا بخلاف وجوب المعرفة فإنّ البيان غير ممكن قبل المعرفة فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في المعرفة .
نعم ، لا يمكن إنكار حسن الشكر عقلا وشرعاً ، إذ هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان ، كما لا يكاد ينكر أنّ الأئمّة (عليهم السلام) منعمون بالاضافة إلينا حيث إنّهم وسائط في الافاضة والإيجاد ، هذا كلّه في الاستدلال بحكم العقل المستقل .
أمّا الاستدلال بالحكم غير الاستقلالي وهو ما يتوقّف على مقدّمة شرعية أعني الاستدلال بالأولوية بعد ثبوت ولاية الأب ووجوب إطاعته شرعاً ، فإنّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكاسب 3 : 548 .
ــ[160]ــ
العقل يستقل بعد ذلك بوجوب إطاعة الأئمّة (عليهم السلام) بطريق أولى .
ففيه : أنّ إطاعته بجميع المراتب ليست واجبة ، فلذا إذا أمره بتمليك أمواله له لا يجب ذلك عليه قطعاً ، نعم يستحبّ الامتثال وعليه يحمل ما ورد بهذا المضمون من الروايات والأخبار حيث ورد « أنت ومالك لأبيك »(1) وحينئذ فكيف يمكن التعدّي منه إلى وجوب إطاعة الأئمّة (عليهم السلام) مطلقاً ، إذ لم يثبت وجوب الاطاعة في حقّ الأب مطلقاً وفي جميع المراتب حتّى يمكن التعدّي منه إلى وجوبها في الأئمّة (عليهم السلام) مطلقاً ، هذا أوّلا .
وثانياً : أنّ المناط في وجوب إطاعة الأب غير معلوم ، وليس المدرك في وجوب إطاعته عبارة عن كونه موجباً لحياة الولد حتى نتعدّى منه إلى وجوب إطاعة الأئمّة (عليهم السلام) وإلاّ للزم وجوب إطاعة من أنقذ أحداً من الغرق أو المرض لأنه أوجب حياته ومع ذلك لا يجب عليه إطاعته بوجه ، ويحتمل أن يكون المناط هو تربية الولد فعلا وهي مفقودة في الأئمّة (عليهم السلام) .
فالمتحصّل : أنّ الولاية بهذا المعنى إنّما ثبتت بالآيات والأخبار لا بالوجهين العقليين أبداً .
وأمّا الولاية التشريعية وكون الأئمّة (عليهم السلام) نافذي التصرّف في الأموال والأنفس شرعاً ، فهي أيضاً ثابتة بلا ريب لقوله تعالى (النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(2) وقوله تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ)(3) وقوله (صلّى الله عليه وآله) في يوم الغدير : « ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا بلى . قال : من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 17 : 262 / أبواب ما يكتسب به ب78 .
(2) الأحزاب 33 : 6 .
(3) المائدة 5 : 55 .
ــ[161]ــ
كنت مولاه فهذا علي مولاه »(1) وغير ذلك ممّا دلّ على ثبوت الولاية لهم في الأموال والأنفس ، فللإمام (عليه السلام) أن يبيع دار زيد أو يطلّق زوجته أو يزوّجها من أحد وهكذا من دون اعتبار رضا المالك أو الزوج .
وممّا يدلّ على ثبوت هذه الولاية لهم (عليهم السلام) ما حكاه الترمذي(2) في فضائل علي بن أبي طالب (عليه السلام) من أنّ جيشاً رجع إلى المدينة وكان يرأسهم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد كان معهم أسرى وأعجبت واحدة منهنّ الإمام (عليه السلام) فأخذها لنفسه وواقعها وقد ساء ذلك عند الجماعة ، والظاهر أنّهم هم الثلاثة ، وبنوا على أن يخبروا النبي (صلّى الله عليه وآله) بذلك ، فلمّا وصل الجيش إلى المدينة ـ وكانت العادة أن يزوروا النبي (صلّى الله عليه وآله) بلامة حربهم ثمّ يرجعوا إلى دورهم وينزعوا لامتهم ـ وقد حضر واحد منهم النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو لابس لامته وأخبر النبي (صلّى الله عليه وآله) بالحال فسكت النبي (صلّى الله عليه وآله) ثمّ جاءه الثاني وأخبره بالخبر وسكت النبي (صلّى الله عليه وآله)(صلّى الله عليه وآله) وقال : ماذا تريدون من علي بن أبي طالب ، أفلست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا نعم ، وقال : وهو يعني علي بن أبي طالب خليفتي وقائم مقامي من بعدي . وهذه الرواية على تقدير تمامية سندها تدلّ على المقصود بأحسن وجه . أيضاً حتّى جاءه ثالثهم فأخبره بالحال وعند ذلك غضب
لا يقال : إنّهم بناءً على ذلك يتمكّنون من التصرف في أعراض المسلمين . فإنه يقال : إنّ تصرّفاتهم إنّما تنفذ فيما إذا كانت بالأسباب المقرّرة شرعاً لا بغيرها نظير تصرّف نفس المالك في ملكه ، مثلا لهم أن يبيعوا دار أحد أو يطلّقوا زوجته ثمّ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع بحار الأنوار 37 : 108 ـ 253 ، الغدير 1 : 14 ـ 158 .
(2) سنن الترمذي 5 : 632 / 3712 .
ــ[162]ــ
بعد انقضاء عدّتها يزوّجها الإمام (عليه السلام) من نفسه مثلا ، لا أنّهم يتصرّفون في زوجة الغير من دون طلاق أو زواج ، فتعالوا عن ذلك علوّاً كبيراً .
ويدلّ على وجوب إطاعتهم أيضاً : ما ورد(1) في نفي ما نسب إليهم من أنّهم قالوا إنّ الناس عبيد لنا حيث قال (عليه السلام) لم أقل ذلك ولا سمعت من آبائي وإنّما الناس عبيد لنا في الاطاعة ، يعني لا في مثل جواز بيعهم وتملّكهم كما نسب إليهم . نعم سيرة الأئمّة (عليهم السلام) لم تجر على التصرف في أموال المسلمين أو أنفسهم ، بل كانوا يشترون شيئاً من مالكه باجازته ولا يتصرفون في أموالهم بدون إذنهم ، إلاّ أنّ ذلك يحتمل أن يكون من باب التقية أو لأجل ما يرونه من المصالح ، وكيف كان فهي لا تدلّ على عدم ولايتهم كما هو ظاهر ، هذا كلّه في الولاية بمعنى نفوذ تصرّفاتهم في الأموال والأنفس .
وأمّا ثبوت ولايتهم بالمعنى الثاني أعني اشتراط تصرفات الغير باذنهم وإجازتهم فهي أيضاً ثابتة في حقّهم بمقتضى الأخبار(2) الواردة في المقام إلاّ أنّ شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(3) ذكر أنّ اشتراط إجازتهم في صحة التصرفات على خلاف الأصل وهو يقتضي خلاف الاشتراط وعدمه .
ولا يخفى أنّ مقتضى الأصل يختلف باختلاف الموارد ، فمقتضاه في بعض الموارد عدم الاشتراط وفي بعضها الآخر هو الاشتراط وتوضيحه : أنه إن كان هناك إطلاق يقتضي صحة ذلك التصرف على نحو الاطلاق من دون حاجة إلى إجازة الأئمّة (عليهم السلام) كما في صلاة الميّت فإنه دلّ الدليل على صحتها ووجوبها
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي 1 : 187 / 10 باب فرض طاعة الأئمّة .
(2) الكافي 1 : 185 ، 205 ، 210 .
(3) المكاسب 3 : 458 .
ــ[163]ــ
على المسلمين ولم يقيّدها باجازة الإمام (عليه السلام) لأنّ الدليل إنّما دلّ على أنّ السلطان أولى بالصلاة من غيره وأمّا أنّها مقيّدة باجازته فلا ، ففي مثله نتمسّك بذاك الدليل في رفع قيدية اجازة الإمام (عليه السلام) .
كما أنه إن كان لدليل ذلك التصرف دلالة يقتضي عدم صحّة التصرف بدون إجازة الإمام (عليه السلام) كما في التصرف في أموال الناس بالبيع ونحوه أو في أنفسهم بالقصاص والتعزير ونحوهما ، فإنّ الثابت من ذلك جوازهما مع اجازة الإمام ، وأمّا بدونها فاطلاق ما دلّ على حرمة الايذاء وعدم جواز التصرف في أموال الناس من دون رضاهم يقتضي حرمتهما فنتمسّك بذلك الدليل .
وأمّا إذا لم يكن هناك دليل على أحدهما ووصلت النوبة إلى الأصل العملي فإن كان الشك راجعاً إلى تقييد وجوب التصرف أو العمل باجازة الإمام (عليه السلام) كصلاة الجمعة مثلا حيث علمنا بصحّتها ووجوبها مع إجازة الإمام (عليه السلام) وشككنا في وجوبها بدون إذنه (عليه السلام) فهو شك في التكليف نرجع فيه إلى البراءة وبها نثبت عدم الوجوب بلا إذن الإمام (عليه السلام) ومرجعه إلى اشتراط الوجوب بالإذن والاجازة . وإن كان الشكّ راجعاً إلى تقييد صحة العمل بالاجازة بعد الفراغ عن ثبوت أصل الوجوب فنرجع في التقييد إلى البراءة ونرفعه بها ، ومرجع ذلك إلى أنّ العمل صحيح من دون حاجة إلى إجازة الإمام (عليه السلام) .
ثمّ إنّ الرجوع إلى الأصل العملي ينبغي أن يفرض في مورد لم يمكن الرجوع فيه إلى الإمام (عليه السلام) وسؤال حكم المسألة عنه (عليه السلام) وذلك لوضوح أنه لا يمكن الرجوع إلى الأصل العملي مع التمكّن من السؤال عن الإمام (عليه السلام) فإنّ الشبهات الحكمية يجب فيها الفحص والسؤال ولا يرجع فيها إلى الأصل بدونهما .
ــ[164]ــ
وكيف كان ، فالبحث عن ولاية الإمام (عليه السلام) بالمعنى الأول ممّا لا ثمرة عملية له ، لأنّ الإمام (عليه السلام) إن تصرّف في مال أحد فهو يكشف عن صحته وجوازه ، لأنه لا يرتكب الحرام فلا يحتاج إلى هذا البحث الطويل ، وإنّما تعرّضنا له لأجل البحث عن ولاية الفقيه وعن أنّها بأي مقدار على فرض ثبوتها .
وقد حكي عن بعض معاصري صاحب الجواهر أنه كان بانياً على ولاية الفقيه على نحو ولاية الإمام وهي الولاية العامّة ، وقد اعترض عليه صاحب الجواهر في مجلس فقال : زوجتك طالق فأجابه المعاصر بأني لو كنت أعتقد اجتهادك لاجتنبت عن زوجتي إلاّ أنّ اجتهادك محل كلام عندي ، وكان له مقام علمي شامخ .
وكيف كان ، فيقع الكلام في ولاية الفقيه وأنّها ثابتة له على نحو يتمكّن معها من التصرف في الأموال والأنفس نظير ولاية الإمام (عليه السلام) أو أنه لا ولاية له في شيء من ذلك أبداً ، وأنّ تصرّفات الغير هل تناط باجازة الفقيه وإذنه أو أنها غير منوطة باجازته .
أمّا الولاية بالمعنى الأول ـ فمضافاً إلى أنها مقطوعة العدم في حدّ نفسها ، إذ لا وجه لقيام الفقيه بمنزلة الإمام (عليه السلام) في وجوب إطاعته في أوامره الشخصية أو في نفوذ تصرّفاته في الأموال والأنفس من غير اعتبار رضا صاحب المال ، نعم لا مانع من الالتزام بقيامه مقام الإمام (عليه السلام) بالاضافة إلى وجوب إطاعته في تبليغ الأحكام بعد استكمال جميع شرائط التقليد من الأعلمية على تقدير اعتبارها وغيرها من الشرائط ـ لا دليل على أنّ الفقيه كالإمام في ثبوت الولاية المطلقة له وأمّا ما استدلّ به على ذلك من الأخبار الواردة في شأن العلماء فهو لا دلالة له على ذلك أبداً .
أمّا قوله (عليه السلام) « إنّ العلماء ورثة الأنبياء وأنّ الأنبياء لم يورّثوا ديناراً
ــ[165]ــ
ولا درهماً ولكن ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها أخذ بحظّ وافر »(1) فلا وجه للاستدلال به إلاّ دعوى أنّ الورثة ينتقل إليهم ما للمورّث من الأشياء ومنها الولاية المطلقة الثابتة للنبي (صلّى الله عليه وآله) فهي تنتقل إليه أي إلى الوارث وهو الفقهاء لا محالة .
إلاّ أنه لا يمكن المساعدة عليه ، لأنّ المنتقل إلى الوارث عبارة عمّا تركه الميّت فلابدّ في انتقال شيء منه إلى وارثه من إحراز ذلك وأنه داخل فيما تركه كالمال ونحوه ، وأمّا مثل الشجاعة أو العدالة أو غيرها من الأوصاف القائمة بالشخص فلا معنى لانتقاله إلى الوارث كما هو ظاهر ، والولاية في المقام لا يعلم أنّها داخلة في عنوان ما ترك أو أنّها من قبيل الأوصاف القائمة بنفس النبي أو الإمام ، فلا تتم دلالة الحديث على ثبوت الولاية المطلقة للفقيه ، هذا مضافاً إلى أنّ الحديث قد صرّح بأنّ الموروث أي شيء حيث ذكر أنّهم ورثوا أحاديث ، فليس الموروث عبارة عن الولاية أو غيرها ، فهذه الأخبار وإن كانت مشتهرة وصادرة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) وليست مجعولة كما نسب إلى أبي بكر وقيل إنه جعل هذه الأحاديث ، إلاّ أنه لا دلالة فيها على المدّعى أبداً . نعم إنّ ما جعله أبو بكر هو ما زاده في ذيل الحديث من قوله : ما تركناه صدقة ، وأراد بذلك إنكار فدك وأخذه من يد فاطمة (عليها السلام) غفلة عن أنّ الحديث ناظر إلى أنّ الأنبياء لا يجمعون الدرهم والدينار وإنّما نظرهم إلى الآخرة ، وليس نظر الحديث إلى أنّ الأنبياء لا يورّثون شيئاً ولو ألبسة بدنهم أو إناء دارهم أو نفس دارهم وغيرها ممّا هو ضروري الحياة ، هذا مضافاً إلى أنّ فدك كانت نحلة لها (عليها السلام) وقد أعطاها النبي (صلّى الله عليه وآله) إيّاها في حياتهوإنّما ادّعت الارث بعد التنزّل عن كونه نحلة .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 18 : 78 / أبواب صفات القاضي ب8 ح2 (مع اختلاف يسير) .
ــ[166]ــ
وأمّا قوله « العلماء اُمناء الرسل »(1) فهو أيضاً لا دلالة له على الولاية المطلقة بوجه ، فإنّ كونهم اُمناء لا يستدعي نفوذ تصرّفاتهم في الأموال والأنفس ، فإنّ معنى الأمين أنه لا يخون الوديعة المجعولة عنده من الأحكام أو غيرها ، وأمّا الولاية فلا كما لا يخفى ، هذا .
ومن القريب أن يراد بالعلماء الأئمّة الأطهار ، ويطلق العالم عليهم (عليهم السلام) دون من تعلّم الفقه والاُصول ، وذلك لعدم إمكان إرادة جميع العلماء من لفظه حيث إنه يشمل علماء الحساب والهندسة والتاريخ والجغرافيا فيلزم تخصيص الأكثر على تقدير إرادة الفقيه منه ، فلا محالة يحمل على الإمام (عليه السلام) ، وقد ورد في بعض الأخبار نحن العلماء وشيعتنا المتعلّمون(2)، وهذا الحديث نعم الحاكم في المقام ويدلّ على أنّ المراد بالعلماء هم الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) وعليه فلا دلالة في الحديث على الولاية المطلقة للفقيه .
وكذا قوله (عليه السلام) « مجاري الاُمور بيد العلماء بالله الاُمناء على حلاله وحرامه »(3) فإنّ العالم بالله ليس إلاّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) وأنّهم هم الذين بيدهم مجاري الاُمور ، فلو تنزّلنا وفرضنا أنّ المراد بالعالم هو الفقيه فقوله (عليه السلام) : « الاُمناء على حلاله وحرامه » قرينة على أنّ مجاري الاُمور من حيث الأحكام والحلّية والحرمة بيد الفقيه إذ لو لم يبيّن حلّية بعض الأفعال وحرمة بعضها الآخر لتوقّفت الاُمور وتحيّر الناس لعدم العلم بحكمه ، فهو لا يدلّ على الولاية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي 1 : 33 / 5 باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، ولكن ليس فيه كلمة « الرسل » .
(2) الكافي 1 : 34 / 4 باب أصناف الناس .
(3) البحار 100 : 80 / 37 .
ــ[167]ــ
المطلقة بوجه ، وإنّما يدلّ على أنّ للفقيه أن يبيّن الحلال والحرام ، وأمّا نفوذ تصرّفاته في الأموال والأنفس فلا كما هو أوضح من أن يخفى .
وأمّا قوله « علماء اُمّتي كأنبياء بني إسرائيل » أو « منزلتهم منزلة الأنبياء في بني اسرائيل »(1) وغيرهما ممّا ورد بهذا اللسان فهو أيضاً كسوابقه لا دلالة له على الولاية بوجه ، إذ التنزيل والتشبيه لابدّ وأن يكون في أظهر الآثار والخواص وأظهرها في أنبياء بني اسرائيل أمران : أحدهما وجوب إطاعتهم في الأحكام ولزوم قبول قولهم في تبليغها ، وإنّما شبّههم بأنبياء بني إسرائيل من أجل أنّ أنبياءهم كانوا مختلفين في النبوّة فبعضهم كان نبي بلدته وآخر كان نبيّ محلّته أو قريته وثالث كان نبي أقربائه بل كان نبي داره ، وكانت إطاعتهم لازمة في تبليغ الأحكام والعلماء أيضاً مختلفون فبعضهم عالم بلده وآخر عالم محلّته أو قريته وهكذا ، فتجب إطاعتهم في تبليغ الأحكام بمقتضى هذا الحديث .
وثانيهما : رفعة محلّهم وعظمة منزلتهم عند الله وكأنه أراد في الحديث بيان أنّ علماء اُمّتي لا يقصرون في عظمة المنزلة عن أنبياء بني اسرائيل إذا عملوا بعلمهم والسرّ في ذلك أنّ تلميذ مدرسة تارة يكون أرقى منزلة من معلّم بالمدرسة النازلة كبعض تلامذة المدرسة الثانوية بالاضافة إلى معلّم المدرسة الابتدائية أو تلامذة المدرسة العالية في الطبّ بالاضافة إلى دكتور المحلّ وهكذا من جهة عظمة المدرسة وأهميّتها ، والمدرسة المحمّدية (صلّى الله عليه وآله) كذلك بالاضافة إلى أنبياء بني اسرائيل الذين كانوا مدرّسين لاُمّتهم معالم الإسلام ، فيكون تلامذة تلك المدرسة العالية أشرف مقاماً وأعظم منزلة من معلّمي بني اسرائيل إذا عملوا بوظائفهم فإنّ نيابة الإمام (عليه السلام) من أهم المقامات ولا أقل من تساويهم معهم في الشرف
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البحار 2 : 22 / 67 ، البحار 75 : 346 ذيل الحديث 4 .
ــ[168]ــ
هذا كلّه مع أنّ ثبوت الولاية بهذا المعنى في أنبياء بني اسرائيل أوّل الكلام فكيف بمن يقوم مقامهم وينزّل منزلتهم . فالحديث لا دلالة له على الولاية المطلقة بوجه بل إنّما ورد في بيان فضيلتهم وعلوّ مقامهم ولعلّه ظاهر .
وأمّا قوله (صلّى الله عليه وآله) « اللهم ارحم خلفائي ثلاثاً قيل ومن خلفاؤك يارسول الله ؟ قال الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنّتي »(1) فهو أيضاً لا دلالة له على الولاية لتصريحه بأنّ الذين يأتون بعده خلفاؤه في رواية الحديث لا في غيره من الاُمور ، مضافاً إلى ظهور قوله « من بعدي » في إرادة الأئمّة (عليهم السلام) لأنّ العلماء خلفاء الأئمّة (عليهم السلام) ويأتون بعدهم (عليهم السلام) لا بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) ولعلّه ظاهر .
وأمّا الاستدلال على ذلك بقوله (عليه السلام) في نهج البلاغة « أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به »(2) مستشهداً بقوله تعالى (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ)(3) ففيه أنّ أولوية العلماء بالأنبياء إنّما هي بكونهم أقرب إليهم يوم القيامة من حيث المنزلة والمقام وهي لا تقتضي الولاية على التصرف في الأموال والأنفس أبداً .
وأمّا قوله (عليه السلام) في مشهورة أبي خديجة : « جعلته عليكم قاضياً »(4)فلعلّ الاستدلال به من جهة توهّم أنّ القاضي له الولاية على أموال الناس وأعراضهم . ويندفع بأنّ القضاء غير الولاية ولا ولاية للقاضي على أموال الناس
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 27 : 139 / أبواب صفات القاضي ب11 ح7 .
(2) نهج البلاغة 484 ، باب المختار من حِكم أمير المؤمنين (عليه السلام) الحكمة 96 .
(3) آل عمران 3 : 68 .
(4) الوسائل 27 : 139 / أبواب صفات القاضي ب11 ح6 .
ــ[169]ــ
وأعراضهم .
بقي الكلام في الاستدلال باطلاق الحجّة على العلماء في التوقيع المشهور حيث قال (عليه السلام) : « هم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله »(1) والظاهر أنّ ذلك أيضاً لا دلالة فيه على الولاية ، لأنّ الحجّة مناسبة للافتاء والقضاء لأنّ معناها تنجّز الأحكام على الناس بهم ، ولا يناسب الولاية على التصرف في الأموال والأنفس كما لا يخفى .
وأمّا ما ورد من إطلاق الحاكم على العلماء كما في مقبولة عمر بن حنظلة(2)حيث قال « جعلته عليكم حاكماً » فقد ذهب شيخنا الاُستاذ(3) إلى استظهار الولاية من هذه الرواية بدعوى أنّ الحاكم غير القاضي في زمان الأئمّة (عليهم السلام) وهما منصبان ، والحاكم هو من يتصرف في الاُمور والقاضي عبارة عمّن يقضي في المرافعات ، ولم يقل إنّي جعلته عليكم قاضياً وإنّما قال جعلته عليكم حاكماً بمعنى كونه ممّن يتصرّف في الأموال وغيره في مقابل القاضي الذي شأنه الافتاء والقضاء .
وفيه : أنّ المرسوم في تلك الأزمنة هو جعل الوالي والقاضي دون الحاكم والقاضي ، لأنّ الحاكم مرادف للقاضي كما هو ظاهر وإنّما المغاير له الوالي وهو عبارة عمّن يتولّى الاُمور ، ولم يقل إنّي جعلته عليكم والياً وإلاّ لتمّت الدلالة على المدّعى بأوضح وجه ، ومن الغريب أنه (قدّس سرّه) أيّد مدّعاه بما ورد في صدر الحديث من التقابل بين السلطان والقاضي وهو يدلّ على تغاير الحاكم والقاضي . ولا يخفى ما فيه بعد ما ذكرناه من أنّ الحاكم بمعنى القاضي ويقابله الوالي والسلطان ، ويشهد لما
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 27 : 140 / أبواب صفات القاضي ب11 ح9 .
(2) الوسائل 27 : 136 / أبواب صفات القاضي ب11 ح1 .
(3) منية الطالب 2 : 237 .
ــ[170]ــ
ذكرناه أمران : الأول : قوله (عليه السلام) بعد تلك الجملة : « فإذا حكم بحكمنا » فإنه لا يراد منه إلاّ القضاء . الثاني : أنّ الحديث إنّما ورد في المرافعة والمناسب لها هو القضاء دون الولاية كما لا يخفى .
فالمتحصّل : أنّ الفقيه ليس كالإمام (عليه السلام) في وجوب الاطاعة إلاّ في تبليغ الأحكام فيما إذا كان واجداً لشرائط المرجعية والتقليد ، فلا تجب إطاعته في الأمر بارسال الأخماس والزكوات ونحوهما ، اللهمّ إلاّ أن يكون المقلّد يقلّد مجتهداً يرى ثبوت الولاية للمجتهد ووجوب إطاعته ، فلابدّ حينئذ من الاطاعة فيما أمر به الفقيه لا لأجل ثبوت الولاية له بل لأجل فتوى المجتهد بقبوله ، هذا تمام الكلام في الولاية بالمعنى الأول .
وأمّا ثبوت الولاية بالمعنى الثاني فقد استدلّ عليها ببعض ما أسلفناه وأسلفنا الجواب عنه كقوله (عليه السلام) « العلماء ورثة الأنبياء » ونحوه .
وربما يستدلّ على ثبوتها كما عن شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) بما ورد من قوله (عليه السلام) : « أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا »(2)بدعوى أنّ الاُمور المستحدثة في العالم لابدّ من الاستئذان فيها من الرواة والعلماء وقد استشهد على ذلك باُمور :
منها : أنّ الإمام (عليه السلام) حكم بارجاع نفس الوقائع إلى الرواة لا بالرجوع في حكمها إليهم ، بل لابدّ من إرجاع نفس القضية إليهم حتى يتصرّفوا فيها بالمباشرة أو يأذنوا في التصرف فيها لآخر لا أنه يجب المراجعة في استفسار حكم الوقائع إليهم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكاسب 3 : 555 .
(2) الوسائل 27 : 140 / أبواب صفات القاضي ب11 ح9 .
ــ[171]ــ
ومنها : أنه (عليه السلام) عقّب ذلك بقوله : « فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله » وهذا يقتضي الولاية من أجل أنه لو اُريد بالرجوع إلى الرواة الرجوع إليهم في حكم الحوادث فالعلماء لا يتّصفون بالحجّة المضافة إلى الإمام (عليه السلام) لأنّهم حجّة الله في تبليغ الأحكام لا أنّهم حجّة الإمام كما هو ظاهر قوله (عليه السلام) « فإنّهم حجّتي » إذ الشارع قد حكم بلزوم إطاعة العلماء في تبليغ الأحكام ، وهذا بخلاف ما لو اُريد من الرجوع إلى الرواة الاستئذان منهم الذي هو بمعنى الولاية فإنّ الولاية لم تثبت للعلماء من قبل الشارع ابتداء بل إنّما جعلت للإمام وهو يجعلها للعلماء فيكون العلماء حجّة الإمام في ذلك كما هو ظاهر .
ومنها : أنّ المراجعة في استفسار أحكام القضايا الحادثة إلى الأئمّة أو العلماء من بعدهم من البديهيات والضروريات التي لا تحتاج إلى السؤال أو إلى عدّه من المشاكل كما في صدر الحديث حيث إنّ إسحاق بن يعقوب ذكر في صدره أنّ مسائل قد أشكلت عليّ الخ وعدّ منها هذه المسألة ، وهذا بخلاف ثبوت الولاية للعلماء فإنه أمر مشكل غير معلوم فلا مانع عن الاستفسار والسؤال ، وعليه فهذه الرواية تدلّ على وجوب الاستئذان في الاُمور من العلماء وليست ناظرة إلى الرجوع إليهم في حكم هذه الاُمور كما لا يخفى ، هذا .
ولا يخفى أنّ الحديث ناظر إلى حكم الرجوع إلى العلماء في استفسار أحكام الوقائع الحادثة ، وأمّا ما استشهد به على مدّعاه ففيه : أنّ المذكور في الحديث هو الأمر بالمراجعة في الحوادث إلى العلماء لا إرجاع نفس الوقائع إليهم ليتصرّفوا فيها بل يجب عليهم السؤال عن حكمها لأنه (عليه السلام) قال : « ارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا » ولم يقل : ارجعوها إلى رواة أحاديثنا ، وهذه العبارة في إفادة ذلك أمر عرفي ، ونظيره يقع في المحاورات كثيراً فيقال راجع الفلاني في الأمر الفلاني أي شاور معه واستفسر حكمه .
ــ[172]ــ
وأمّا الاستشهاد الثاني فيدفعه : ما ذكرنا من أنّ الحجّية تناسب الافتاء لأنّها بمعنى تنجّز الحكم ولا تناسب الولاية كما لا يخفى ، وأمّا إضافة الحجّة إلى نفسه (عليه السلام) فهي من أجل أنّ الإمام (عليه السلام) يستشهد بالعلماء يوم القيامة في تبليغ الأحكام كما يستشهد الأنبياء بالأوصياء وأنّهم بلّغوها إليهم وهم يعترفون بذلك فيسأل الأوصياء عن تبليغ الأحكام فيقولون إنّا قد بلّغناها إلى العلماء والعلماء يعترفون بذلك ويقولون نحن أيضاً بلّغناها إلى الناس ، فالتعبير بحجّتي من أجل ذلك ومن أجل أنّ وجوب الرجوع في الأحكام إليهم إنّما ثبت بأمرهم (عليهم السلام) فهم واسطة في ذلك وبه يصحّ أن يقال إنّهم حجّتي .
وأمّا الاستشهاد الثالث ففيه : أنّ ظهور الرجوع في المسائل المستحدثة إلى الرواة بعد الأئمّة (عليهم السلام) غير بيّن لأنه في غاية الصعوبة والجهالة ، إذ من يعلم وجوب الرجوع في المسائل الجديدة التي لم تكن متحقّقة في زمن الأئمّة إلى العلماء كمسألة من صلّى الظهر في بلدته ثمّ سافر مع الطائرة إلى بلدة لم يدخل الظهر فيها بعد ثمّ صار الزوال بعد ذلك فهل تجب عليه الظهر ثانياً ، أو كمسألة من استحمل باللقاح لا بالدخول فهل الولد يلحق بصاحب الماء أو لا ، ولولا أمرهم (عليهم السلام) بالمراجعة فيها إلى الرواة والعلماء لأنّهم يستنبطون أحكامها من القواعد والاُصول لا محالة لم يكن ذلك ظاهراً لأحد ، نعم كبرى رجوع الجاهل إلى العالم مسلّمة وواضحة لا إشكال فيها .
فالمتحصّل : أنّ الفقيه لم تثبت له الولاية بالمعنى الثاني أيضاً إلاّ في بعض الموارد على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وأمّا الاستدلال على ذلك بما نسب إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) من أنّ
ــ[173]ــ
« السلطان ولي من لا ولي له »(1) فمندفع أوّلا : بأنّ هذا الخبر ليس موجوداً في كتبنا المعتبرة ولعلّها نبوية عامّية موجودة في طرقهم .
وعلى فرض أنّها مروية من طرقنا أيضاً لا يمكن الاعتماد عليها لضعفها والإنجبار قد عرفت ما فيه سابقاً وذكرنا أنّ عمل المشهور لا يمكن أن يكون جابراً لضعف الحديث .
وثالثاً : لو سلّمنا أنّ عمل المشهور جابر لضعف الرواية أيضاً لا وجه للاستدلال بها في المقام ، إذ الكلام في ولاية الفقيه دون السلطان كما هو ظاهر فالرواية أجنبية عمّا نحن بصدده .
ثمّ إنه ربما يستدلّ على ولاية الفقيه بوجهين : أحدهما أنّا ننظر إلى العامّة فنرى أنّ خليفتهم أو من يقوم مقامه يتصدّى لاُمور الصغار والمجانين ويتصرّف في أموالهم بالبيع والشراء ونحوهما ، فمنه نستكشف أنّ هذه الاُمور لابدّ من أن يتولاّها أحد في الشريعة المقدّسة وإن كان صغرى ذلك أعني من يتصدّى لها عندهم باطلا عندنا لعدم جواز تصدّي مثل الخلفاء في أموال الناس ، وأمّا كبرى المسألة وهي لزوم أن يتصدّى الاُمور المذكورة أحد في الشريعة فهي ممّا لا إشكال فيه ونستنبطها من ملاحظة أفعال العامّة ، وصغرى هذه الكبرى عندنا هي أنّ الذي يتصدّى الاُمور المذكورة هو الفقيه لأنّا نعلم وجداناً أنه إذا دار الأمر بين الفقيه وغيره فالفقيه أولى بالتصدّي من غيره ، فيرجع هذا الدليل إلى كبرى ثابتة بالسيرة القطعية من العامّة وصغرى ثابتة بالعلم الوجداني .
ولكن يردّه : أنّ فعل العامّة وجريان سيرتهم على الرجوع إلى شخص لا يكون مدركاً شرعياً عندنا حتّى نفتي على طبقه بشيء ولعلّ ذلك من مبتدعاتهم في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن البيهقي 7 : 106 ، كنز العمّال 16 : 309 / 44643 .
ــ[174]ــ
الإسلام ، ولا يلزم أن يتولّى الاُمور المذكورة شخص ، فاستكشاف لزوم الرجوع إلى أحد في الشريعة من ملاحظة أفعال العامّة وسيرتهم أمر غلط وغير صحيح .
مع أنّا لو سلّمنا الكبرى فالصغرى غير ثابتة ، لأنّ حصر المرجع في الفقيه أيضاً لم يقم عليه دليل موجب للعلم أو الاطمئنان ، ولماذا لم يجز الرجوع في تلك الاُمور إلى عدول المؤمنين مثلا ، فهذا الدليل ساقط لا يمكن الاستدلال به .
وثانيهما : ما استدلّ به بعض المعاصرين من رواية عمر بن حنظلة حيث ورد فيها إنّ رجلين تحاكما إلى السلطان أو القاضي لأجل التنازع في دَين أو ميراث فحكم الإمام (عليه السلام) بأنّ التحاكم إليهما كالتحاكم والترافع إلى الجبت والطاغوت فأرجعهما إلى رواة الحديث ، فمنه يعلم أنّ كل ما كانوا يرجعون فيه إلى السلطان أو القاضي لابدّ من أن يرجعوا فيه إلى الرواة والفقهاء ولابدّ من الاستجازة منهم .
ولكنّه مندفع بأنّ الإمام (عليه السلام) إنّما أرجعهما إلى الرواة في خصوص التنازع في دَين أو ميراث لا في جميع الاُمور وهذا ظاهر في ثبوت منصب القضاء والمحاكمة لهم ، فلا يستفاد منه الولاية المطلقة للفقيه بوجه .
فالمتحصّل : أنه لم تثبت للفقيه ولاية بنحو من الأنحاء في شيء من الموارد أبداً . هذا كلّه بحسب الدليل الاجتهادي .
وأمّا مقتضى الأصل العملي على تقدير الشكّ في ثبوت الولاية للفقيه وعدمه فقد ذكرنا سابقاً أنه يختلف باختلاف الموارد ، فتارةً نشكّ في أصل مشروعية بعض التصرّفات ولو في حقّ الفقيه أيضاً كما إذا أردنا تزويج الصغير مثلا لأنه مشكوك الجواز ولو بالاضافة إلى الفقيه لأنه لم تثبت ولايته على الأطفال نظير الآباء والأجداد ، وكالحدود فإنّ إجراء كل أحد الحدّ على كل أحد غير جائز قطعاً بل لابدّ في أمثال ذلك من أن تصدر تلك الأفعال والتصرفات باجازة الإمام ، مثلا إذا أردنا
ــ[175]ــ
الاقتصاص من أحد من المسلمين بالقتل فلابدّ فيه من الاستجازة من شخص الإمام وإلاّ كيف يجوز قتل أحد من دون دليل فإنّ مقتضى عموم حرمة قتل النفس وإيذاء الناس حرمتهما على نفس الفقيه فضلا عن غيره . فهذه الاُمور خارجة عن محل الكلام في المقام لتوقّفها على إجازة الإمام فقط ولا تكفي فيه إجازة الفقيه ولا غيره كما هو ظاهر .
واُخرى نعلم أصل مشروعية العمل بل نعلم بوجوبه بلا تقييد إلاّ أنّا نحتمل التقييد في الواجب بأن يكون العمل المأذون فيه من الفقيه واجباً فأصل الوجوب محرز ولا كلام فيه ، وإنّما الكلام في اشتراط الواجب بشيء ففي مثل ذلك لا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى البراءة عن التقييد والاشتراط عدم اشتراط العمل بشيء وهو نتيجة الاطلاق ، فمقتضى الأصل عدم لزوم الاستجازة من الفقيه .
وثالثة نعلم بأصل الوجوب في الجملة بمعنى أنّا نحتمل أن يكون الوجوب مقيّداً باجازة الإمام أو الفقيه كما في مثل صلاة الجمعة حيث يحتمل أن تكون واجبة فيما إذا أجاز الفقيه وغير واجبة فيما إذا لم يجزها ، ففي مثل ذلك مقتضى الأصل عدم الوجوب إلاّ فيما إذا أجاز الفقيه لأنه متيقّن حينئذ وهو نتيجة التقييد .
ورابعة : نعلم أصل مشروعية العمل ولا نحتمل الوجوب في شيء ولكن نعلم بمشروعيته عند إجازة الفقيه ونشكّ في جوازه بدونها وهذا كما في التصرف في بعض الأوقاف العامّة أو الأخماس وسهم الإمام فإنّ التصرف فيها بإذن الفقيه مقطوع الجوز لعدم جواز التصرف في ملك الغير وهو الإمام ، وبما أنه غير متمكّن الوصول إليه وقلنا بعدم جواز دفنه أو الايصاء به أو إلقائه في البحر بل لابدّ من صرفه ، ولا نحتمل اشتراط إجازة غير الفقيه قطعاً ، فنعلم أنه عند إجازة الفقيه جائز قطعي ونشكّ في صورة عدم الاجازة ونفس الشكّ كاف في عدم جواز العمل ، فهذا ليس من أجل ولاية الفقيه بل من أجل الأخذ بالمقدار المتيقّن ، ومن ذلك أيضاً التصرف
ــ[176]ــ
في أموال القاصرين وحفظها فإنّ جواز حفظها ممّا لا إشكال فيه غير أنّا نشكّ في جوازه بدون إذن الفقيه ونعلم بجوازه معه ، فيعتبر إذنه من باب الأخذ بالمقدار المتيقّن .